فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السموات أيضًا، وقيل: المراد بالسر ما كتم عنهم من عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر ما ظهر لهم من السموات والأرض.
وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقًا بالمصدر على سبيل التنازع، واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.
ويلزم أيضًا التنازع مع تقدم المعمول.
وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول: بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره، ونقل عن ابن هشام أنه قال: إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه، وقال مولانا صدر الدين: يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي في السماء إله} [الزخرف: 84] مع أن إلهًا مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر.
وعن أبي علي الفارسي أنه جعل {هُوَ} ضمير الشأن و{الله} مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {يعلم سرّكم وجهركم} جملة مقرّرة لمعنى جملة {وهو الله} ولذلك فصلت، لأنّها تتنزّل منا منزلة التوكي لأنّ انفراده بالإلهية في السماوات وفي الأرض ممّا يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية.
ولا يجوز تعليق {في السماوات وفي الأرض} بالفعل في قوله: {يعلم سرّكم} لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيًّا.
وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} فيه سؤال: وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر.
فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} يقتضي عطف الشيء على نفسه، وأنه فاسد.
والجواب: يجب حمل قوله: {مَا تَكْسِبُونَ} على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سرًا أو علانية، وتخصيصُها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها، لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرًا وعلانية.
وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة {يَعْلَمْ}.
ومن الناس من غاير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم.
وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر.
وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد بـ {تكسبون} جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد.
والخطاب لجميع السامعين؛ فدخل فيه الكافِرون، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}.
وهو الذي هو معبودُ مَنْ في السماء، مقصود مَنْ في الأرض، وهو الموجود قبل كل سماءٍ وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغيْر وغَبَر. اهـ.

.قال الفخر:

الآية تدل عى كون الإنسان مكتسبًا للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهًا عن جلب النفع ودفع الضرر. والله أعلم. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن معنى الكلام وهو الله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض.
{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما تخفون، وما تعلنون. والثاني: وهو الله المعبود في السموات، وفي الأرض.
والثالث: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وتقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، لأن في السموات الملائكة، وفي الأرض الإِنس والجن، قاله الزجاج.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تعلمون من بعد، ولا يخفى عليه ما كان منكم، ولا ما سيكون، ولا ما أنتم عليه في الحال من سر، وجهر. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}.
قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فبين أن قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} ليس على حد قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر، قالت فرقة ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، وعبر بعضهم بأن قدر هو الله المدبر للأمر في {السماوات وفي الأرض}، وقال الزجاج {في} متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازًا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله: {وهو الله} أي الذي له هذه كلها {في السماوات وفي الأرض} كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط {في السماوات وفي الأرض} كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات لقلت محالًا، وإذا كان مقصد قوله زيد الأمر الناهي المبرم الذي عزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحًا صحيحًا، فكذلك في الآية أقام لفظة {الله} مقام تلك الصفات المذكورة، وقالت فرقة {وهو الله} ابتداء وخبر تم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله: {في السماوات} بمفعول {يعلم}، كأنه قال: {وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض} فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون {هو} ضمير أمر وشأن لأنه يرفع {الله} بالابتداء، و{يعلم} في موضع الخبر، وقد فرق {في السماوات وفي الأرض} بين الابتداء والخبر وهو ظرف غريب من الجملة، ويلزم قائلي هذه المقالة أن تكون المخاطبة في الكاف في قوله: {سركم وجهركم} لجميع المخلوقين الإنس والملائكة، لأن الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء، فترتيب الكلام على هذا القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين {سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض} وقالت فرقة {وهو} ضمير الأمر والشأن و{الله في السماوات} ابتداء وخبر تم الكلام عنده، ثم ابتدأ كأنه قال: {ويعلم في الأرض سركم وجهركم}، وهذا القول إذ قد تخلص من لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم، وقوله تعالى: {يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} خبر في ضمنه تحذير وزجر، و{تكسبون} لفظ عام لجميع الاعتقادات والأفعال والأقوال. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة الأول القائلين بأنه- تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا- في كل مكان؛ حيث حملوا الآية على ذلك، فأصح الأقوال أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، أي: هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} خبرًا أو حالا.
والقول الثاني: أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، من سر وجهر. فيكون قوله: {يَعْلَمُ} متعلقًا بقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ} تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون.
والقول الثالث أن قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: {وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} وهذا اختيار ابن جرير.
وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي: جميع أعمالهم خيرها وشرها. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
قوله: {وَهُوَ الله في السموات وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} قيل: إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبودًا ومتصرفًا ومالكًا، أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب، أي حاكم أو متصرف فيهما؛ وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه.
وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض.
والأوّل أولى، ويكون {يعلم سركم وجهركم} جملة مقرّرة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض، يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشرّ، وجلب النفع ودفع الضرر. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أي: المعبود فيهما {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي: من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي: ما تفعلونه من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب. وتخصيصه بالذكر، مع اندراجه فيما سبق، على التفسير الثاني للسر والجهر- لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء. وهو السر في إعادة يعلم.
قال الناصر في الانتصاف: وما هاتان الآياتان الكريمتان- يعني هذه الآية وآية الزخرف، وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ} [الزخرف: 84]- إلاَّ تَوْأَمَتَاَن. فإن التمدح في آية الزخرف، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: للمفسرين في هذه الآية أقوال، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية، الأول القائلين- تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا- بأنه في كل مكان، حيث حملوا الآية على ذلك. فلأصح من الأقوال أنه المدعوّ في السماوات والأرض، أي: يعبده ويوحده ويقرّ له بالآلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية- على هذا القول- كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}. أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ} خبرًا أو حالًا.
والقول الثاني- إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر. فيكون قوله: {يَعْلَمُ} متعلقًا بقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات... إلخ.
والقول الثالث- إن قوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ} وهذا اختيار ابن جرير. انتهى.
ورجح ابن عطية في الآية: أنه الذي يقال له: {الله} فيهما. قال: وهذا عندي أفضل الأقوال، وأكثرها إحرازًا لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى، وإيضاحه: أنه أراد أن يدل على خلقه، وآيات قدرته، وإحاطته واستيلائه، ونحو هذه الصفات. فجمع هذه كلها في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ}- الذي لَهُ هَذِهِ كُلُّهَا: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.
تنبيه:
قال الرازي: الآية تدل كون الْإِنْسَاْن مكتسبًا للفعل، والكسب هو الفعل المفُضِي إلى اجتلاب نفع، أو دفع ضرّ. ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب، لكونه تعالى منزهًا عن جلب النفع، ودفع الضرّ- والله أعلم-. اهـ.